معمــرة ســيناء عمرها 107 سنوات ولا تعرف عــدد أحفادها
بتاريخ : 25/4/2009
وشم وتجاعيد علي وجه السيدة مغيضة, التي جاوز عمرها المائة بسبع سنوات, تارة تظن هذه التجاعيد دروبا في الصحراء التي ولدت فيها مغيضة, وتارة أخري تقرأ فيها سجلا لتاريخ وأحداث عاشتها تلك المعمرة التي لم تكن أيامها كلها رخاء, كما أنها لم تكن سنين عجافا, فبين هذا وذاك تنقلت المعمرة منذ ميلادها في الصحراء وانتقالها بقية عمرها إلي مدينة لا تشبه المدن الكبيرة, ولم تغادرها, لكنها سمعت وعاشت ما صنع من المعرفة الكثير وحفظتها ذاكرة لا تزال بخير.
مائة من السنين وازدادت سبعا, تركت بصماتها علي ملامح مغيضة, وإن لم تفلح في محو الوشم الذي بقي واضحا علي يديها وجبهتها, عيونها لم تعد تري إلا آثار السنين علي ذاكرتها, فالميلاد والأحداث والشعر النبطي الذي تحفظه كأنها نقوش علي جدارية تقاوم الزمن.
مائة من السنين وازدادت سبعا, تركت بصماتها علي ملامح مغيضة, وإن لم تفلح في محو الوشم الذي بقي واضحا علي يديها وجبهتها, عيونها لم تعد تري إلا آثار السنين علي ذاكرتها, فالميلاد والأحداث والشعر النبطي الذي تحفظه كأنها نقوش علي جدارية تقاوم الزمن.
كان واضحا أننا أمام امرأة آتاها الله وفرة في العمر وبسطة في الطول, لكن الأخير لم يعد بمقدورها أن تصلبه لتقف.
في أقصي أطراف مدينة العريش تقطن مغيضة حسين عبد الله, مغيضة تعني قليلة, وتقيم عند صغري بناتها في غرفة نظيفة, وإن خلت من أي أثاث, فرشتها حصير من بلاستيك وراكية نار يسمونها كانون, رحبت بالقادمين وإن لم تميز أصواتهم, فهذا حفيدها القاضي العرفي يحيي الغول في منتصف العقد السادس والآخر حمادة.
جلس الجميع حولها, راحت تسرد قصصا, كأنما تستدعيها من بئر لا قرار لها, إنها لا تربط الأحداث بأرقام السنين لكن ما إن تلتقط طرف حكاية حتي تكملها عن آخرها, الحاجة مغيضة من مواليد نخل لكنها بحسب قولها قديمة مالي جبل وتقصد أن كل من في سنها قد ماتوا جميعا وتستطرد:
جلس الجميع حولها, راحت تسرد قصصا, كأنما تستدعيها من بئر لا قرار لها, إنها لا تربط الأحداث بأرقام السنين لكن ما إن تلتقط طرف حكاية حتي تكملها عن آخرها, الحاجة مغيضة من مواليد نخل لكنها بحسب قولها قديمة مالي جبل وتقصد أن كل من في سنها قد ماتوا جميعا وتستطرد:
ياحلو جيلك تعدي ما بقالك جيل وإن جيت يا مرحبا وإن فت بالتساهيل
تقول مغيضة وكأنها تحدث نفسها:
تقول مغيضة وكأنها تحدث نفسها:
أنا واعية أيام تركيا وإن أردت تحسب عمري احسب وعد لما تتعب, أريد أقول أبي مات أيام تركيا قتلوه ثأرا, كان يكتب ويصلي, وأبوه جدي عبد الله أغا جاء من المغرب إلي بني سويف وانتهي في الخفجة عند نخل وعشنا عيشة العرب, أنا تعلمت مع المعزة الرعي ما غيره وأحيانا كنا نشمل بالحلال, نرحل إلي فلسطين, الخصاب والمرعي كثير.
وكيف كانت الحياة والقبائل؟ هكذا كان السؤال الذي لم يتوقف لتستوضحه برغم ضعف بسيط يلاحظ بسمعها, لكنها سارعت قائلة: أنا لاحقت الغزو بين القبائل, يهاجمون بعضهم البعض لأجل الإبل, وهاربات المياه, ويغيرون علي بعض, يقتلون ويأسرون, والصحراء ماليها دولة ولا عسكر.
وعن عدد أبنائها وأحفادها لم تسعفها الذاكرة, لكنها تقول: قول100 قول200 ماني عارفة عدد, ويتداركها حفيدها الشيخ يحيي الغول القاضي العرفي بسيناء بقوله: إن أحفادها وصلوا إلي97 حفيدا, يجتمعون في منزلها في المناسبات ولا تذكر أسماءهم, لكنها حريصة علي أن تضحك مع الجميع.
فاكرة الحروب, أي والله الحرب الأولي هربنا, والإنجليز هدموا جامع نخل وحبسوا جوزي وأبي, لأنهم كانوا مع الأتراك مسلمين مثلنا, إنها ذاكرة الفطرة والبداوة, التي لا تزال مغيضة تتشبث بجزء كبير منها, فهذه الأحداث وحدها تعني أن تلك السيدة المسنة, تنتمي إلي زمن قديم.
وعن زواجها الذي انتقلت للحديث عنه وكأنها تحرص علي الترتيب في السرد, قالت مغيضة: أنا تزوجت عقب موسم الجراد, كان الجراد نزل علي بلدنا في سيناء, وما كانت عينك تشوف إلا الجراد في الأرض والسماء, وقضي علي الأخضر واليابس, لكنا كنا نحاربه ونصيده ونأكله, وكنا نستخدم في ذلك غطاء الأواني وكانت مصنوعة من النحاس, نضرب الأواني علي بعضها فيحاول الجراد أن يطير من الأرض ونقوم بصيده ونجتمع بالليل ونقعد نشويه علي النار.
وما إن قاطعها حفيدها: أنت تزوجت قبل جدي حتي بادرته قائلة: ما مكنته مني هو كان ابن عم لي اسمه عبد الغني, ودخلت عليه, الدخل طلب النجدة, وما رجعت لبيت أبي إلي أن طلقني وخالي ما تركني, مغسل إيده نضيفه, وكل يوم يتكفل ضيفا, رجل كريم لم يرض لي بما أكره وعندما عدت تزوجت جدهم أعطاه أبي قصلتي, وهي قطعة من شجر يابس بمثابة علامة القبول بالزواج, وهو من قبيلة التياها وخلفت منه كل أولادي, ولدين وست بنات, سألتها: كم سنة عمرك عند الزواج؟, فقالت: تجوزت بعد العشرين ولا تنسي قصتي, وزوجي جد هؤلاء كان عسكري يحرس خطوط التليفون في منطقة نخل بوسط سيناء, وقد تزوج بعدي مرتين, وبرغم ما تحسه المرأة التي يتزوج عليها زوجها, فإن زوجي أخبرني بضرورة ذلك لأنه خطب بنت خالته في القسيمة وعليه أن يتزوج بها ولو ليلة واحدة ليكون عند كلمته ولا يعيب هذا الرجال, وأنا كمان تأخرت في الإنجاب سنتين أو أكثر, وكان علي أن أرضي بالواقع وكله نصيب وأنا قمت بخدمة العروس وطهوت طعامهما لمدة أسبوع, هما وضيوف زوجي, علي كثرتهم, احتفالا بزواجه الثاني, لكن لم أغضب أبدا من رجلي وأبو عيالي. والشئ ده كان عاديا أن الرجل يتزوج أكتر من واحدة ويعتبر عيبا كبيرا أنه يتزوج واحدة بس.
ولم يكن هناك مفر من مقاطعتها وسؤالها عن ذكريات ما حدث من مواجهات بين العرب وإسرائيل.., مغيضة تذكر حرب48, وبوضوح أكثر تحدثنا عن واقعة أسر زوجها بمنطقة الكونتيلا, بوسط سيناء من قبل اليهود إبان العدوان الثلاثي, وتضيف: لم يكن لدينا راديو وسمعنا عن دخول اليهود سيناء, لكن السودانيين ركبوا رءوس الجبال وقتلوا منهم الكثير, وكنا نسمع صراخهم والهجانة مابطلوش قتل, لكن اليهود لا يعترفون.
ولا تتوقف العجوز حتي تحدثنا عن انتقالها وزوجها للحياة بالعريش بعد حرب56 والتي لا تذكرها رقما, وإن كانت متأكدة من إنجابها لكل أولادها قبل ذلك بسنوات, كما تتذكر أنها أرضعت أحد أحفادها مع آخر بناتها, ثم تعود لتحدثنا عن قيامها بتوليد بناتها وزوجات أحفادها وأحفاد أحفادها الآن وتسميهم الضعوف ينامون عند أقدامها وهي تعدهم بمائة أو مائتين, فالأرقام لا تعني الكثير لديها, لكنهم خير كثير.
وينتقل الحديث إلي الحرب القريبة اللي إمبارح, وتعني بها نكسة67 لتحدثنا بكل فخر عن ابنها قائلة ولدي حمد راجل ولا زيه, ليس له مثيل, كان يقطع تليفونات اليهود وحبسوه شهورا طويلة, وبعد ما تركوه رجعوا يبحثون عنه, عاوزينه كان يجمع السلاح للمنظمات وشارك مع رجال العريش في كل حاجة ضد إسرائيل وكان له كنية لقب وشهرته بين المقاومة أبو النمر راجل ماله إخوان.
مغيضة لم تترك الفرصة دون أن تتوقع مستقبل ما يحدث الآن برغم عدم علمها بما يحدث, مغيضة لم تر مصر القاهرة ومصر عند العجوز راحت ورجعت في حروب لا تدري لها عددا تماما مثلما تعني كلمة البلاد عندها الأرض التي تعيش عليها بين سيناء وفلسطين, فكلها بلاد الله.
وينتقل الحديث إلي الحرب القريبة اللي إمبارح, وتعني بها نكسة67 لتحدثنا بكل فخر عن ابنها قائلة ولدي حمد راجل ولا زيه, ليس له مثيل, كان يقطع تليفونات اليهود وحبسوه شهورا طويلة, وبعد ما تركوه رجعوا يبحثون عنه, عاوزينه كان يجمع السلاح للمنظمات وشارك مع رجال العريش في كل حاجة ضد إسرائيل وكان له كنية لقب وشهرته بين المقاومة أبو النمر راجل ماله إخوان.
مغيضة لم تترك الفرصة دون أن تتوقع مستقبل ما يحدث الآن برغم عدم علمها بما يحدث, مغيضة لم تر مصر القاهرة ومصر عند العجوز راحت ورجعت في حروب لا تدري لها عددا تماما مثلما تعني كلمة البلاد عندها الأرض التي تعيش عليها بين سيناء وفلسطين, فكلها بلاد الله.
وعن مصر تحدثك مؤكدة أنها لم تدخل وادي النيل مطلقا, أنا عميت من عمر آية حفيدة حفيدها18 عاما, ومشفت الهرم ولا حتي التليفزيون, لكن سمعت عنه وعن السد والنيل المصري.
طيب وفرعون والفراعنة يا جدة؟ هكذا سألها حفيدها فتحدثت عن فرعون الذي طرد سيدنا موسي واليهود إلي التيه الكبير في سيناء.
طيب فاكرة حكام مصر؟ تقول: كانوا يقولون عن ملك وبعده ما سمعت إلا عن جمال عبدالناصر, راجل عظيم, أطرقت قليلا محاولة أن تتذكر اسم الرئيس التالي وهو ما أسعفته بها ابنتها, السادات يا أمي, وهنا تقول: آه.. عابوا فيه وطخوه.. رجل خشن علي اليهود, دخل في بيوتهم بطيارته, مبادرة السلام, قلبه جامد وسياسي ما ينغلب, وإن كان ناس قالوا عنه كلام مش قد كده, واللي بعده رجل عظيم ما سمعنا الحروب وأصوات الرصاص وعشنا في أمان سنين طويلة.
وتستطرد: وإحنا مالنا والرؤساء خليهم في حالهم واللي وراهم وقدامهم.
وعن صحتها والسر وراء طول عمرها تحدثت الحاجة مغيضة عن طولة البال وقلة الطعام, لكن ما ولدي آكل كل حاجة بس أحب أكل الفاكهة كتير وأقلل من اللحمة, مالي أسنان غير بعضها نبتت صغيرة مرة أخري, لكني آكل بطقم عملتوا قبل ما ترجعلنا البلاد. تقصد عودة سيناء وإجلاء الاحتلال الإسرائيلي منذ ثلاثين عاما, بعدما حجيت وزرت القدس وما أعاني أي مرض ولا بأخذ براشيم.
أما عن الأغاني فلا تحب أن تسمع إلا القرآن الكريم والأخبار, فالمعمرة البدوية التي فقدت بصرها قرابة عقدين, لم تفقد روح الدعابة, حين غادرتنا ابنتها التي جاءتها زائرة باللحم والطعام فتقول لها: وراكي الوزارة والرئاسة, وقبل أن نتركها بدأت في تلاوة بعض ما تحفظ من القرآن تستعين به في صلواتها والدعاء لكل من حولها, وعند السلام والمغادرة وجهت كلامها لحفيدتها: لو أني بصحتي مسبتكم من غير واجبكم كنت دبحت ليكو وغديتكو.
وعن صحتها والسر وراء طول عمرها تحدثت الحاجة مغيضة عن طولة البال وقلة الطعام, لكن ما ولدي آكل كل حاجة بس أحب أكل الفاكهة كتير وأقلل من اللحمة, مالي أسنان غير بعضها نبتت صغيرة مرة أخري, لكني آكل بطقم عملتوا قبل ما ترجعلنا البلاد. تقصد عودة سيناء وإجلاء الاحتلال الإسرائيلي منذ ثلاثين عاما, بعدما حجيت وزرت القدس وما أعاني أي مرض ولا بأخذ براشيم.
أما عن الأغاني فلا تحب أن تسمع إلا القرآن الكريم والأخبار, فالمعمرة البدوية التي فقدت بصرها قرابة عقدين, لم تفقد روح الدعابة, حين غادرتنا ابنتها التي جاءتها زائرة باللحم والطعام فتقول لها: وراكي الوزارة والرئاسة, وقبل أن نتركها بدأت في تلاوة بعض ما تحفظ من القرآن تستعين به في صلواتها والدعاء لكل من حولها, وعند السلام والمغادرة وجهت كلامها لحفيدتها: لو أني بصحتي مسبتكم من غير واجبكم كنت دبحت ليكو وغديتكو.
هكذا هي المرأة في أقصي صحاري مصر, ذاكرتها تمتلئ بأسماء شخوص ورجال رحلوا ما بين الثأر بين القبائل أو الموت في الأسر وأحيانا كثيرة يقتلون في عمليات الحرب التي لم تتوقف علي أرض سيناء, لكنها أمور تبقي مقبولة عندما اعتنقوا فكرة الدفاع عن الأرض والعقيدة والوطن الذي قد لا يدركون منه سوي ما سمعوه عنه وحلموا يوما بزيارته, وهو الحلم الذي قد يباغته الموت قبل أن يتحقق حتي وإن طال العمر.
ذلك العمر الذي لا نظن أحدا في بر مصر قد شهد خلاله وعايش ما شهدته وعاشته هذه المعمرة, دول مثل تركيا وإنجلترا والاحتلال الإسرائيلي كلهم مروا علي هذه الأرض, ومغيضة باقية علي حالها وفي مكانها, ومرت بها أحداث وحروب غيرت وجه العالم, لكن هذه السيدة العجوز بقيت في مكانها ثابتة كالوتد تقاوم عوادي الزمن بالذاكرة الحية.