صورة لغلاف كتاب العريش الحاج يحيى الغول

صفحة الحاج يحيى الغول على الفيس بوك

حديث عن جدة الحاج يحيى محمد الغول (لأمه) للأهرام العربي


معمــرة ســيناء‏ عمرها ‏107‏ سنوات ولا تعرف عــدد أحفادها
بتاريخ : 25/4/2009
وشم وتجاعيد علي وجه السيدة مغيضة‏,‏ التي جاوز عمرها المائة بسبع سنوات‏,‏ تارة تظن هذه التجاعيد دروبا في الصحراء التي ولدت فيها مغيضة‏,‏ وتارة أخري تقرأ فيها سجلا لتاريخ وأحداث عاشتها تلك المعمرة التي لم تكن أيامها كلها رخاء‏,‏ كما أنها لم تكن سنين عجافا‏,‏ فبين هذا وذاك تنقلت المعمرة منذ ميلادها في الصحراء وانتقالها بقية عمرها إلي مدينة لا تشبه المدن الكبيرة‏,‏ ولم تغادرها‏,‏ لكنها سمعت وعاشت ما صنع من المعرفة الكثير وحفظتها ذاكرة لا تزال بخير‏.‏
مائة من السنين وازدادت سبعا‏,‏ تركت بصماتها علي ملامح مغيضة‏,‏ وإن لم تفلح في محو الوشم الذي بقي واضحا علي يديها وجبهتها‏,‏ عيونها لم تعد تري إلا آثار السنين علي ذاكرتها‏,‏ فالميلاد والأحداث والشعر النبطي الذي تحفظه كأنها نقوش علي جدارية تقاوم الزمن‏.‏
كان واضحا أننا أمام امرأة آتاها الله وفرة في العمر وبسطة في الطول‏,‏ لكن الأخير لم يعد بمقدورها أن تصلبه لتقف‏.‏
في أقصي أطراف مدينة العريش تقطن مغيضة حسين عبد الله‏,‏ مغيضة تعني قليلة‏,‏ وتقيم عند صغري بناتها في غرفة نظيفة‏,‏ وإن خلت من أي أثاث‏,‏ فرشتها حصير من بلاستيك وراكية نار يسمونها كانون‏,‏ رحبت بالقادمين وإن لم تميز أصواتهم‏,‏ فهذا حفيدها القاضي العرفي يحيي الغول في منتصف العقد السادس والآخر حمادة‏.‏
جلس الجميع حولها‏,‏ راحت تسرد قصصا‏,‏ كأنما تستدعيها من بئر لا قرار لها‏,‏ إنها لا تربط الأحداث بأرقام السنين لكن ما إن تلتقط طرف حكاية حتي تكملها عن آخرها‏,‏ الحاجة مغيضة من مواليد نخل لكنها بحسب قولها قديمة مالي جبل وتقصد أن كل من في سنها قد ماتوا جميعا وتستطرد‏:‏
ياحلو جيلك تعدي ما بقالك جيل وإن جيت يا مرحبا وإن فت بالتساهيل
تقول مغيضة وكأنها تحدث نفسها‏:‏
أنا واعية أيام تركيا وإن أردت تحسب عمري احسب وعد لما تتعب‏,‏ أريد أقول أبي مات أيام تركيا قتلوه ثأرا‏,‏ كان يكتب ويصلي‏,‏ وأبوه جدي عبد الله أغا جاء من المغرب إلي بني سويف وانتهي في الخفجة عند نخل وعشنا عيشة العرب‏,‏ أنا تعلمت مع المعزة الرعي ما غيره وأحيانا كنا نشمل بالحلال‏,‏ نرحل إلي فلسطين‏,‏ الخصاب والمرعي كثير‏.‏
وكيف كانت الحياة والقبائل؟ هكذا كان السؤال الذي لم يتوقف لتستوضحه برغم ضعف بسيط يلاحظ بسمعها‏,‏ لكنها سارعت قائلة‏:‏ أنا لاحقت الغزو بين القبائل‏,‏ يهاجمون بعضهم البعض لأجل الإبل‏,‏ وهاربات المياه‏,‏ ويغيرون علي بعض‏,‏ يقتلون ويأسرون‏,‏ والصحراء ماليها دولة ولا عسكر‏.‏
وعن عدد أبنائها وأحفادها لم تسعفها الذاكرة‏,‏ لكنها تقول‏:‏ قول‏100‏ قول‏200‏ ماني عارفة عدد‏,‏ ويتداركها حفيدها الشيخ يحيي الغول القاضي العرفي بسيناء بقوله‏:‏ إن أحفادها وصلوا إلي‏97‏ حفيدا‏,‏ يجتمعون في منزلها في المناسبات ولا تذكر أسماءهم‏,‏ لكنها حريصة علي أن تضحك مع الجميع‏.‏
فاكرة الحروب‏,‏ أي والله الحرب الأولي هربنا‏,‏ والإنجليز هدموا جامع نخل وحبسوا جوزي وأبي‏,‏ لأنهم كانوا مع الأتراك مسلمين مثلنا‏,‏ إنها ذاكرة الفطرة والبداوة‏,‏ التي لا تزال مغيضة تتشبث بجزء كبير منها‏,‏ فهذه الأحداث وحدها تعني أن تلك السيدة المسنة‏,‏ تنتمي إلي زمن قديم‏.‏
وعن زواجها الذي انتقلت للحديث عنه وكأنها تحرص علي الترتيب في السرد‏,‏ قالت مغيضة‏:‏ أنا تزوجت عقب موسم الجراد‏,‏ كان الجراد نزل علي بلدنا في سيناء‏,‏ وما كانت عينك تشوف إلا الجراد في الأرض والسماء‏,‏ وقضي علي الأخضر واليابس‏,‏ لكنا كنا نحاربه ونصيده ونأكله‏,‏ وكنا نستخدم في ذلك غطاء الأواني وكانت مصنوعة من النحاس‏,‏ نضرب الأواني علي بعضها فيحاول الجراد أن يطير من الأرض ونقوم بصيده ونجتمع بالليل ونقعد نشويه علي النار‏.
‏وما إن قاطعها حفيدها‏:‏ أنت تزوجت قبل جدي حتي بادرته قائلة‏:‏ ما مكنته مني هو كان ابن عم لي اسمه عبد الغني‏,‏ ودخلت عليه‏,‏ الدخل طلب النجدة‏,‏ وما رجعت لبيت أبي إلي أن طلقني وخالي ما تركني‏,‏ مغسل إيده نضيفه‏,‏ وكل يوم يتكفل ضيفا‏,‏ رجل كريم لم يرض لي بما أكره وعندما عدت تزوجت جدهم أعطاه أبي قصلتي‏,‏ وهي قطعة من شجر يابس بمثابة علامة القبول بالزواج‏,‏ وهو من قبيلة التياها وخلفت منه كل أولادي‏,‏ ولدين وست بنات‏,‏ سألتها‏:‏ كم سنة عمرك عند الزواج؟‏,‏ فقالت‏:‏ تجوزت بعد العشرين ولا تنسي قصتي‏,‏ وزوجي جد هؤلاء كان عسكري يحرس خطوط التليفون في منطقة نخل بوسط سيناء‏,‏ وقد تزوج بعدي مرتين‏,‏ وبرغم ما تحسه المرأة التي يتزوج عليها زوجها‏,‏ فإن زوجي أخبرني بضرورة ذلك لأنه خطب بنت خالته في القسيمة وعليه أن يتزوج بها ولو ليلة واحدة ليكون عند كلمته ولا يعيب هذا الرجال‏,‏ وأنا كمان تأخرت في الإنجاب سنتين أو أكثر‏,‏ وكان علي أن أرضي بالواقع وكله نصيب وأنا قمت بخدمة العروس وطهوت طعامهما لمدة أسبوع‏,‏ هما وضيوف زوجي‏,‏ علي كثرتهم‏,‏ احتفالا بزواجه الثاني‏,‏ لكن لم أغضب أبدا من رجلي وأبو عيالي‏.‏ والشئ ده كان عاديا أن الرجل يتزوج أكتر من واحدة ويعتبر عيبا كبيرا أنه يتزوج واحدة بس‏.‏
ولم يكن هناك مفر من مقاطعتها وسؤالها عن ذكريات ما حدث من مواجهات بين العرب وإسرائيل‏..,‏ مغيضة تذكر حرب‏48,‏ وبوضوح أكثر تحدثنا عن واقعة أسر زوجها بمنطقة الكونتيلا‏,‏ بوسط سيناء من قبل اليهود إبان العدوان الثلاثي‏,‏ وتضيف‏:‏ لم يكن لدينا راديو وسمعنا عن دخول اليهود سيناء‏,‏ لكن السودانيين ركبوا رءوس الجبال وقتلوا منهم الكثير‏,‏ وكنا نسمع صراخهم والهجانة مابطلوش قتل‏,‏ لكن اليهود لا يعترفون‏.‏
ولا تتوقف العجوز حتي تحدثنا عن انتقالها وزوجها للحياة بالعريش بعد حرب‏56‏ والتي لا تذكرها رقما‏,‏ وإن كانت متأكدة من إنجابها لكل أولادها قبل ذلك بسنوات‏,‏ كما تتذكر أنها أرضعت أحد أحفادها مع آخر بناتها‏,‏ ثم تعود لتحدثنا عن قيامها بتوليد بناتها وزوجات أحفادها وأحفاد أحفادها الآن وتسميهم الضعوف ينامون عند أقدامها وهي تعدهم بمائة أو مائتين‏,‏ فالأرقام لا تعني الكثير لديها‏,‏ لكنهم خير كثير‏.‏
وينتقل الحديث إلي الحرب القريبة اللي إمبارح‏,‏ وتعني بها نكسة‏67‏ لتحدثنا بكل فخر عن ابنها قائلة ولدي حمد راجل ولا زيه‏,‏ ليس له مثيل‏,‏ كان يقطع تليفونات اليهود وحبسوه شهورا طويلة‏,‏ وبعد ما تركوه رجعوا يبحثون عنه‏,‏ عاوزينه كان يجمع السلاح للمنظمات وشارك مع رجال العريش في كل حاجة ضد إسرائيل وكان له كنية لقب وشهرته بين المقاومة أبو النمر راجل ماله إخوان‏.
مغيضة لم تترك الفرصة دون أن تتوقع مستقبل ما يحدث الآن برغم عدم علمها بما يحدث‏,‏ مغيضة لم تر مصر القاهرة ومصر عند العجوز راحت ورجعت في حروب لا تدري لها عددا تماما مثلما تعني كلمة البلاد عندها الأرض التي تعيش عليها بين سيناء وفلسطين‏,‏ فكلها بلاد الله‏.
‏وعن مصر تحدثك مؤكدة أنها لم تدخل وادي النيل مطلقا‏,‏ أنا عميت من عمر آية حفيدة حفيدها‏18‏ عاما‏,‏ ومشفت الهرم ولا حتي التليفزيون‏,‏ لكن سمعت عنه وعن السد والنيل المصري‏.
‏طيب وفرعون والفراعنة يا جدة؟ هكذا سألها حفيدها فتحدثت عن فرعون الذي طرد سيدنا موسي واليهود إلي التيه الكبير في سيناء‏.‏
طيب فاكرة حكام مصر؟ تقول‏:‏ كانوا يقولون عن ملك وبعده ما سمعت إلا عن جمال عبدالناصر‏,‏ راجل عظيم‏,‏ أطرقت قليلا محاولة أن تتذكر اسم الرئيس التالي وهو ما أسعفته بها ابنتها‏,‏ السادات يا أمي‏,‏ وهنا تقول‏:‏ آه‏..‏ عابوا فيه وطخوه‏..‏ رجل خشن علي اليهود‏,‏ دخل في بيوتهم بطيارته‏,‏ مبادرة السلام‏,‏ قلبه جامد وسياسي ما ينغلب‏,‏ وإن كان ناس قالوا عنه كلام مش قد كده‏,‏ واللي بعده رجل عظيم ما سمعنا الحروب وأصوات الرصاص وعشنا في أمان سنين طويلة‏.‏
وتستطرد‏:‏ وإحنا مالنا والرؤساء خليهم في حالهم واللي وراهم وقدامهم‏.‏
وعن صحتها والسر وراء طول عمرها تحدثت الحاجة مغيضة عن طولة البال وقلة الطعام‏,‏ لكن ما ولدي آكل كل حاجة بس أحب أكل الفاكهة كتير وأقلل من اللحمة‏,‏ مالي أسنان غير بعضها نبتت صغيرة مرة أخري‏,‏ لكني آكل بطقم عملتوا قبل ما ترجعلنا البلاد‏.‏ تقصد عودة سيناء وإجلاء الاحتلال الإسرائيلي منذ ثلاثين عاما‏,‏ بعدما حجيت وزرت القدس وما أعاني أي مرض ولا بأخذ براشيم‏.‏
أما عن الأغاني فلا تحب أن تسمع إلا القرآن الكريم والأخبار‏,‏ فالمعمرة البدوية التي فقدت بصرها قرابة عقدين‏,‏ لم تفقد روح الدعابة‏,‏ حين غادرتنا ابنتها التي جاءتها زائرة باللحم والطعام فتقول لها‏:‏ وراكي الوزارة والرئاسة‏,‏ وقبل أن نتركها بدأت في تلاوة بعض ما تحفظ من القرآن تستعين به في صلواتها والدعاء لكل من حولها‏,‏ وعند السلام والمغادرة وجهت كلامها لحفيدتها‏:‏ لو أني بصحتي مسبتكم من غير واجبكم كنت دبحت ليكو وغديتكو‏.‏
هكذا هي المرأة في أقصي صحاري مصر‏,‏ ذاكرتها تمتلئ بأسماء شخوص ورجال رحلوا ما بين الثأر بين القبائل أو الموت في الأسر وأحيانا كثيرة يقتلون في عمليات الحرب التي لم تتوقف علي أرض سيناء‏,‏ لكنها أمور تبقي مقبولة عندما اعتنقوا فكرة الدفاع عن الأرض والعقيدة والوطن الذي قد لا يدركون منه سوي ما سمعوه عنه وحلموا يوما بزيارته‏,‏ وهو الحلم الذي قد يباغته الموت قبل أن يتحقق حتي وإن طال العمر‏.‏
ذلك العمر الذي لا نظن أحدا في بر مصر قد شهد خلاله وعايش ما شهدته وعاشته هذه المعمرة‏,‏ دول مثل تركيا وإنجلترا والاحتلال الإسرائيلي كلهم مروا علي هذه الأرض‏,‏ ومغيضة باقية علي حالها وفي مكانها‏,‏ ومرت بها أحداث وحروب غيرت وجه العالم‏,‏ لكن هذه السيدة العجوز بقيت في مكانها ثابتة كالوتد تقاوم عوادي الزمن بالذاكرة الحية‏.