صورة لغلاف كتاب العريش الحاج يحيى الغول

صفحة الحاج يحيى الغول على الفيس بوك

مقدمة كتاب القضاء العرفي الحاج يحيى الغول


المقدمة
إن الحياة البشرية تقوم على تعاون أفراد المجتمع، يؤدي فيها كل فرد ما يستطيع من مجهود، وإن النفوس الآدمية تُحب الرغبة في التملك وحب الذات والرغبة في الهيمنة والتسلط.
فلو تُرك الناس دون وضع نظم صالحة تحدد علاقاتهم ببعضهم، ولم تُشرع القوانين فإن الحياة تسودها الفوضى، وقد تنفصم العرى الإنسانية وتتمزق وشائج المودة بتباين الأهواء وتشعب الميول.
فإن الإنسان مهما كان علمه ورجاحة عقله كفرد لن يستطيع الإحاطة بما تتطلبه حاجات الآخرين، كما أن تنظيم العلاقات الإنسانية لابد وأن يخضع إلى نُظم لا يعتريها ظُلم ولا جور، وإن ذلك لن يكون إلا بتشريع من الله -سبحانه وتعالى-.
حيث يقول تعالى: {صِبْغَةَ اللهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ}([1]).
وقد جاء الإسلام للعرب وهم في وضع جعلهم يكرهون الحد من شهواتهم والالتزام بالتكاليف الشرعية شيئًا فشيئًا حفاظًا عليهم وعلى كل البشرية.
وقد عرف العرب منذ القدم لحاجتهم وأمنهم وسير مصالحهم، فكان للعدل صرحًا عظيمًا أسسوا له قواعد ثبتت في قلوبهم وتمكنت من وجدانهم، وقد حافظ الإسلام منذ بدء الدعوة على يد محمد -صلى الله عليه وسلم- على تثبيت الشرائع التي تحفظ للإنسان دمه وعرضه واحترام وتقدير كل ما يخدم بني البشر.
وإن الشرائع السماوية كفيلة بتطورات متجددة ومرونة معتدلة ومُسايرة للأزمنة المختلفة تأخذ بأيدي المجتمع البشري إلى مدارج الخير، وترقى به إلى مناهل السعادة، فأصبحت من عادات العرب القضاء والمُحافظة على كل ما يهم الإنسانية.
إن عملية الضبط الاجتماعي من العوامل التي أدت لمواجهة الانحراف، وأصبح راسخًا في ضمير الأفراد وثقافتهم الموروثة الحفاظ على المجتمع من خلال هذا القضاء العادل.
وللحفاظ على كيان المجتمع لابد من نظام يحدد حقوق الفرد وواجباته وما هو مسموح له وما هو ممنوع عليه حتى يستطيع كل فرد أن يعرف الحدود ويعيش آمنًا عارفًا سلفًا أن الممنوع عليه جزاء.
وأن إقرار المجتمع لنظام مُقترن بجزاء مُحددًا الحقوق والواجبات مُستهدفًا تحقيق المساواة، بحيث لا يكون مُحاباة لشخص أو طائفة والتوفيق بين مصالح الجميع مع تحقيق توازن في المصالح بين الأفراد.
وإن النظام القضائي يهدف إلى تحقيق الأمن والنظام والمساواة، بل يتجاوز ذلك التقدم بأفراد المجتمع إلى رُقي مُستمر، وأن العدل أساس التقدم.
·       ومن المبادئ الرئيسية في الفكر القانوني:
وجود قانون يُنظم حياة الأفراد وعلاقاتهم، إذ لا يستطيع الإنسان أن يعيش بمفرده، وأن الفرد شاء أم لم يشاء عليه أن يدخل في علاقات مع أفراد المجتمع، وهذه العلاقات ينشأ معها تعاملات ومنازعات وخلافات لا تُحسم إلا من خلال النُظم القضائية كي لا تُترك الأمور في حالة فوضى.
فقد وُجد القانون ليُنظم هذه العلاقات في شتى مجالات الحياة، ومن الطبيعي أن تكون القواعد العامة مُتفقة مع تقاليد وأعراف وطباع أفراد المجتمع([2]).
في المجتمعات البدائية كان يُترك أمر توقيع الجزاء للفرد يأخذ حقه بيده، ثم تطور الأمر بأن يتم التضامن مع الفرد من خلال القبيلة لأخذ حقهم عنوة.
ومع تطور الحياة البشرية أصبحت المجتمعات تضع القواعد العامة التي تُنظم سلوك الأفراد المصحوبة بجزاء وأخذ التشريع مراحل حتى وصل إلى ما هو قائم الآن وأصبح التشريع يتم بواسطة السلطة المُختصة طبقًا للإجراءات الخاصة بذلك، ويعتبر التشريع مصدرًا للقانون.
ويُعتبر العُرف -الذي هو اعتياد الناس على سلوك معين في حالات معينة- وقد كان المصدر الوحيد في الأنظمة القانونية القديمة.
·  أما في الشرائع الحديثة فالأمر يختلف، فالبعض يجعل الغلبة للعرف على التشريع، مثل الشريعة الإنجليزية، معظمها وليد العرف.
·       والبعض يعتبر قواعد العرف وقواعد التشريع مُتعادلة، مثل القانون الألماني.
·       والبعض الآخر -وهو الغالب- يعتبر أن التشريع أعلى من العُرف.
وإن مزايا العرف أنه يتفق والحاجة العملية مستندًا إلى ما جرى إليه الناس في أحوالهم الاجتماعية والاقتصادية، ويتغير ويتطور مع ظروفهم بطريقة تلقائية، وأنه يقوم بسد النقص التشريعي لأن العرف مُلم بظروف المجتمع وقواعد تنظيم شئونه.
وإن المصادر الرئيسية للقانون المصري هي التشريع والعرف ومبادئ الشريعة الإسلامية ومبادئ القانون الطبيعي وقواعد العدالة، وفي الأحوال الشخصية فإن مبادئ الشريعة الإسلامية تسبق العرف في الترتيب.
ونحن بصدد الكتابة عن القضاء العرفي في سيناء -وهو ليس بدعا أو شيء مستحدثًا- بل إن العرف كان أول مصدر للقانون عرفته البشرية، إذ هو الطريقة التي توحي به الفطرة وعنه أنشئت المجتمعات الأولى قواعدها القانونية، فكان في الجماعات القديمة مجموعة عادات اتبعها الأفراد في تنظيم سلوكهم إلى أن رسخ في اعتقادهم أنها مُلزمة والخروج عليها يستتبع توقيع الجزاء.
من الحياة في المجتمع تنشأ بين الفرد وغيره روابط متعددة وعلاقات مختلفة ولا يمكن أن تُترك دون تنظيم برغبة فرد أو مشيئته أو لقوي على ضعيف وضرورة إقامة التوازن بين الجميع.
ومن هذا المُنطلق نشأ "القضاء العرفي" في سيناء، ويشترك مع هذه المنطقة الهامة في قوانين الضبط الاجتماعي المتمثلة في القضاء العرفي الدول المجاورة، والمحافظات الحدودية في جمهورية مصر العربية، ور يف مصر، وكثير من البلاد العربية، لأن المنطقة قبل الحرب العالمية الأولى كانت دون حدود أو حواجز بين هذه الدول، وقد تعارف أهل المناطق على القضاء العرفي فيما بينهم، وخاصة في المناطق الصحراوية والقبلية منها، حفاظًا على الأرواح والأعراض والممتلكات والمعاملات.
وبما أن التراث وذاكرة الشعوب وثقافتها يُدلل على أخلاقها الحميدة لأن القضاء العرفي في سيناء نموذجًا طيبًا، وهو من العوامل التي أدت إلى الحفاظ على القيم الكريمة فترة الاحتلال الإنجليزي الطويلة، ثم الاحتلال الإسرائيلي، حيث كان سدًا منيعًا بعدم عرض قضايا أهل سيناء على سلطات الاحتلال وحرمانه من الإطلاع على هذه الخلافات.
كما كان لهذا القضاء والقائمين عليه أدوار بطولية تمثلت في حث أبناء سيناء بعدم التعامل مع هذا المحتل، بل وكانت بعض الجلسات العرفية ساترًا لأفراد المقاومة والعاملين لصالح الوطن.
وحافظ القضاء العرفي برجاله على أبناء سيناء وكانوا سدًا منيعًا للحفاظ على عاداتهم وتقاليدهم وقضائهم، وقضاء حوائج أبنائهم وأهلهم في تلك الفترة العصيبة.
ولازال للقضاء العرفي دور هام جدًا في الاستقرار، وهم مع إدارات الدولة يدًا بيد للاستقرار والأمن والأمان لكل مواطن على أرض سيناء.
يتميز القضاء العرفي في سيناء بإنهاء النزاع بنظرة اجتماعية وبحث كامل وشامل لأي نزاع وإصدار الأحكام التي تُحافظ على المجتمع آخذين في الاعتبار التطور الاقتصادي والدور الهام المطلوب من المجتمع المدني، حيث يُعتبر القضاء العرفي مُمثلاً للمجتمع المدني في وأد الخلافات واستقرار المجتمع منذ عشرات السنين.
حيث يتميز بسرعة إنهاء أي نزاع والاستمرار في مُجابهة قضايا الثأر والنظرة الشاملة متمشيًا مع فكر الدولة لاستقرار المجتمع وتنميته.
وإن الحفاظ على هذا الموروث الطيب يتطلب التعاون الجاد من إدارات الدولة وهيئات المجتمع المدني والمُخلصين لدعم هذا العمل النبيل ليستمر نموذجًا للعدالة والحيدة ضمن مؤسسات المجتمع التي تسعى دائمًا لنشر العدل والحفاظ على الأرواح والممتلكات والأعراض، وتشجيع كل من يرغب من أبناء مصر بالمساهمة والتقدم من خلال الصروح العلمية والمشروعات الصناعية والزراعية، وكافة الأعمال التي تجعل من سيناء حصنًا على حدود مصر الشرقية، ومثالاً للضبط الاجتماعي والدعم الاقتصادي لكل أبناء الوطن.
المؤلف

1) سورة البقرة : الآية رقم 138.
1) التصالح والصُلح في المنازعات الجنائية واستقرارها في الأمن العام , رسالة دكتوراة د/عبد الله أحمد الشيخ.